دخلنا مرحلة استطلاعات الرأي، وفوضى استطلاعات الرأي.
لمدة الأيام الخمسة القادمة، سوف نقرأ كل يوم عن نتائج استطلاع يخبرنا من سيكسب الانتخابات القادمة.
وستكون النتائج مغايرة تماماً لبعضها، وسيكون معظمها لا علاقة له بالحقيقة.
وقد بدأت النتائج بالفعل، فهنا يكسب أيمن نور بلا منازع، وهنا يكسب مبارك وكأنه هو المرشح الوحيد، وكل من الإثنين يدعي أن مصدره هو آراء الجماهير.
ولأن كل ما يحدث هو فرصة لكي نتعلم، فالسطور القادمة تحكي بإيجاز شديد عن كواليس استطلاعات الرأي في العالم المتطور… ولعلنا نقرأ ونفهم.
الهدف من عمل استطلاع للرأي حول التصويت في الانتخابات هو توقع نتيجة الانتخابات. جملة شديدة البساطة. وبالتالي، فالاستطلاع الجيد هو من يقدم نتائج هي الأقرب للنتيجة النهائية.
في الدول “الديمقراطية”، يعتبرون أن استطلاعات الرأي عملية علمية بحتة، يقوم بتحضيرها أساتذة دراسات اجتماعية وإحصاء من أكبر الجامعات، وتشرف على الاستطلاعات مؤسسات محايدة، تعطي درجة لكل جهة تقوم بالاستطلاع، وتُحَتِّم على هذه الجهات أن تنشر هذا التقييم بجانب نتائج الاستطلاع. كما تتم المقارنة سنوياً بين نتائج الاستطلاعات المختلفة والنتيجة الحقيقية للانتخابات، ويتم تعديل طرق الاستطلاع التي فشلت في الاستنتاج لتؤدي بطريقة أفضل في العام التالي.
فما الذي يجعل الاستطلاع ناجحاً؟؟
يتم عمل استطلاعات الرأي من خلال التليفون أو وجهاً لوجه، حيث يتم التأكد من شخص المُجيب ومن أنه ضمن الكيان المطلوب دراسته (في حالتنا مثلاً، الكيان هو المصريون الذين لديهم بطاقة انتخابية وينوون الإدلاء بصوتهم يوم الانتخاب – حيث أن أي شخص خارج هذه الشروط رأيه لا يعبر عن نتيجة الانتخابات). وهناك بالطبع قواعد لا حصر لها للتأكد من أن لا “السؤال” ولا “السائل” يقومون بتوجيه المُجيب في أي اتجاه.
يتضمن كل استطلاع ما بين ألف إلى ألفين شخص، وهذا الرقم كافي جداً ليعطينا فكرة قريبة عن نتائج الانتخابات. وهذه هي معجزة العلم الإحصائي – بدون دخول في التفاصيل -. فعينة بحجم ألف شخص تعطينا خطأ حوالي + أو – 3% فقط على كل إجابة من الإجابات.
يتم اختيار العينة بطريقة عشوائية، وبطريقة تحاكي تقريباً التوزيع الحقيقي للفئات المختلفة في المجتمع الذي ندرسه. ففي مصر، ينبغي أن يشمل أي استبيان انتخابي كل محافظات مصر، رجال وسيدات وأنسات، فقراء وأغنياء، عاملين وعاطلين… وتزيد على ذلك بعض طرق البحث بأن تضيف وزناً مختلفاً لإجابات الفئات المختلفة بحسب وجودها في المجتمع المستهدف. (كان المتبع مثلاً أن يتم اختيار العينة من المقيدين بدليل التليفونات – ثم اكتشف علماء الاجتماع أن نسبة كبيرة من الشباب تكتفي بالمحمول وليس لها رقم تليفون أرضي، وبالتالي فالعينة غير عشوائية).
وكما ذكرت، يتم استبعاد كل من دلت إجاباته على الأسئلة أنه غير مسموح له أو غير راغب في التصويت، أما من يقول أنه لم يقرر بعد من سينتخب، فيتم توزيع إجاباته بناءً على عدد من القواعد التي أشرحها لاحقاً. وتؤثر آراء هؤلاء “الذين لم يقرروا بعد” بشكل رئيسي على النتائج الأخيرة.
كما أنه لا يسمح إطلاقاً بقبول متطوعين للإجابة، خوفاً من أن يقوم أحد الأحزاب بتوجيه مؤيديه لإغراق اسبيان معين بإجاباتهم، مؤثرين بالتالي على نتائجه، بغرض الإيحاء للناس بقوة مرشحهم.
إذا اعتمدت كل الاستطلاعات على نفس الطرق، هل تأتي بنفس النتائج؟؟
بالإضافة إلى الخطأ الإحصائي العادي، هناك عدد من العوامل يؤثر على النتيجة، أهمها وقت عمل الاستبيان. الدراسات النفسية تقول أن الاستبيانات تقيس “هوى” الناس في مرحلة ما، ولا تقيس معتقداتهم العميقة. وهوى الناس يتقلب كثيراً في أيام الحملات الانتخابية، بل وحتى لحظة التصويت. حيث يُغير الكثير من الناس رأيهم وهم أمام هيبة “القرار النهائي”. وهناك بالتالي دول كثيرة تقوم بعمل استطلاعات للخارجين من اللجان الانتخابية، وذلك في محاولة لاصطياد أي تغيير عن نتائج ما قبل يوم الانتخاب.
كما أن التجربة أثبتت أن تغير هوى الناس لا يظهر في إجاباتهم سريعاً، فهناك فرق يومين تقريباً بين التغيير في رأيي وقدرتي أن أعبر عن هذا التغيير في إجابة سؤال.
والدراسات تقول أنه من كل 20 استطلاع هناك واحد من المحتمل أن تكون نتائجه بعيدة تماماً عن الحقيقة، وهذا نوع آخر من الخطأ الإحصائي. ولذلك يجب الاعتماد عادة على أكثر من استطلاع واحد للتأكد.
الخطأ الإحصائي … الخطأ الإحصائي … يعني إيه؟؟
من المهم جداً أن نفهم هذا الجزء، عندما نقول أن نتائج أي استبيان مؤكدة “زائد أو ناقص 3%”، فهذا ينطبق على كل إجابة منفصلة من الإجابات (إلا قليلاً):
فلو كان هناك مرشحين فقط: “أحمد” و “الحاج أحمد”، وحصل “أحمد” على 52%، و”الحاج أحمد” على 48%، فمازال هناك فرصة أن يكسب “الحاج أحمد” الانتخابات، بأن يزيد 3 درجات وينقص منافسه 3 درجات فيصبح هو الفائز
ولو كان هناك ثلاث مرشحين: حصلوا على 52%، 45%، و3%… فمازالت الانتخابات غير محسومة أيضاً، فالمرشح الثاني يمكنه أن يحصل على 5 نقاط، بينما يخسر الأول والثالث 2.5 نقاط كل منهما، ويكسب الثاني. (ولأنني أقول “إلا قليلاً”، فالمرشح الثاني لن يحصل على ال6 درجات كاملة)
وهكذا… كلما ازدادت عدد الإجابات، ارتفع الخطأ الإحصائي
ولو عندنا استبيان به 12 إجابة (عشرة مرشحين، و “سأبطل صوتي”، و”لا أعرف”)، هذا الاستبيان يمكن أن يظهر في نتائجه أن مُرشح يتقدم على آخر بنسبة عشرين بالمائة، ولا يعني هذا شيئاً. ولذلك يتم عادة حزف كل الإجابات التي نتائجها أقل من 5%، ويتم الاكتفاء بأربعة اختيارات على الأكثر.
هل تؤثر الاستطلاعات على نتيجة الانتخابات؟؟
من الثابت أن نشر نتائج الاستطلاعات لها تأثيرات مختلفة على الناس (أترجمها بلا محاولة لتوخي الدقة):
العربة الرابحة Bandwagon: يصوت بعض الناس لصالح المرشح المحتمل فوزه
الكلب الخاسر Underdog: يصوت بعض الناس لصالح المرشح الخاسر
الثقة المحبطة De-motivating: لا يذهب البعض للانتخاب لثقتهم في فوز مرشحهم
القلق المحفز Motivating: يذهب البعض للانتخاب في اللحظة الأخيرة خوفاً على مرشحهم
الإرادة الحرة Free Will: يتعمد البعض التصويت عكس الاستطلاعات لإثبات أنها خاطئة
كما أن هناك نظرية – تُذكر في نفس السياق – أن من لم يقرروا بعد غالباً يقررون ضد الرئيس الحالي، ولكن ليس بالضرورة ضد منافسه الأقرب.
ولكل ما تقدم، فقد كان هناك حوارات في كل دول العالم تقريباً حول السماح بنشر استطلاعات الرأي قبل الانتخابات مباشرة أو في يوم الانتخابات. وقد انتصرت المحاكم الدستورية في الكثير من البلاد لحرية الرأي والنشر، لكن المعركة جاءت ببعض الخسائر في دول أخرى من بينها مصر.
في الفلبين حكمت المحكمة الدستورية بحق نشر الاستبيانات في 2001، في تايوان يُمنع النشر قبل الانتخابات بعشرة أيام، في الهند كان المنع يمتد لأكثر من شهر قبل الانتخابات، ثم ألغت المحكمة الدستورية هذا القانون، في كندا كان النشر يُمنع قبل الانتخابات بثلاثة أيام، وأيضاً قضت المحكمة الدستورية في 1998 بعدم دستورية ذلك.
وملحوظات أخيرة…
حاولت أن أجيب عن عدد من الأسئلة المتعلقة باستطلاعات الرأي الخاصى بالانتخابات، وكان هدفي الأساسي هو أن نعرف كيف تحدث الأشياء في العالم الذي تأخرنا عنه عشرات السنين.
وتذكرت كثيراً وأنا أقرأ عن الموضوع، ثورة العناترة (جمع عنتر) حين قال أحمد نظيف أننا شعب غير ناضج في مسألة الديمقراطية هذه. طبعاً كان مخطيء ويستحق كل ما تعرض له، لأن المصري الأصيل سينتفض بعد سبعة آلاف عام من الديكتاتورية وسيجد في نفسه يعرف كل شيء عن هذه الدنيا التي لم يختبرها يوماً…
أقترح عليكم أن تدخلوا على هذا الموقع، ستجدوا دروس لكل مرحلة سنية، من ابتدائي إلى ثانوي، لتعليم أصول السياسة والديمقراطية منذ الطفولة. اقرءوا باهتمام، وستفهموا أين نحن وأين هم.
كلمة أخيرة: كل ما قيل عن الاستطلاعات ينسف تقريباً مصداقية أي استطلاع رأي على الإنترنت، فلا العينة عشوائية ولا محايدة، ولا الغش ممنوع، ولا الأسئلة مركبة، ولا التحليل علمي… لكن هذا لا يمنع أننا نستمتع بها ونستخدمها كنافذة على الأقل لاستطلاع رأي مرحلة سنية وطبقة اجتماعية معينة. لكن المهم هو ألا نحملها أكثر مما تحتمل.
مراجع:http://www.pbs.org/elections/kids/educators.html
http://www.usatoday.com/community/chat/1013norman.htm
http://whatdoiknow.org/archives/000533.shtml
http://www.nscb.gov.phhttp://www.mori.com
غاندي، أحييك على هذه التدوينة.
كنت قد قررت الكتابة حول الموضوع ولكن لم يأتيني الوقت، وبعد أن قرأت ما كتبته أنت سعدت بأني لم أبدأ لأنك قلت أكثر مما كنت أريد أن أقوله وأضفت الكثير عمّا كنت أعرفه وكل ذلك بأسلوبك الذي يبهرني دائمًا.
على فكرة، أنا لسة زعلان منك لأنك قلت مرة إنك مهتم بتعليم الشباب حتى سن 25 وأنا عندي أكتر من 26 ولسة عايز أتعلم منك كتير
🙂
ـ
طريقة نشر نتائج الاستطلاع أيضًا شيء مهم.
هناك فرق بين استطلاع رأي ينشر نتيجته بجملة:
كذا % من الشعب يؤيدون فلان
واستطلاع آخر:
كذا % من عينة الاستطلاع يؤيدون فلان
واستطلاع ثالث:
كذا % من عينة الاستطلاع الذي أقيم يوم كذا يؤيدون فلان
الاستطلاع المحترم لا يدّعي لنفسه ما ليس فيه بل يعترف بمحدودية صحة نتائجه. ـ
مقال ممتاز بلا شكّ، والمعلومة الأخيرة بتاعة تأثير الاستطلاع دي هايلة،
أمّا بعد يا غاندي إنت خضّتني،
كنت فاكرك هتطلعلي بنظريّة لوذعيّة لما سألتك عن تحليل نتائج استطلاعات الرأي!
لم يزعُم أحد أنّ ما حدث من استطلاعات “تكهنيّة” ولا “ممثّلة” للشعب المصري.
بس إحنا مش عارفين حاجة فعلاً وبنحاول نكوّن فكرة مبدئيّة!
أنا مثلاً’ حين وضعت استطلاعي كنت أريد معرفة ميول قرّائي، وكان توقّعي أن تسود المقاطعة، لكنّني فوجئت بتفضيل-غير متوقّع-لأيمن نور.
المفاجأة الأكبر بالنسبة لي هي تقارب نتائج استطلاعي مع نتائج الوعي المصريّوقد كنت شككتُ فيها في البداية لأنّها أيضاً رفعت أيمن نور.
الاستنتاج إيه؟ إنّ قرّاء المدوّنات (وهم شريحة مثقّفقة تستخدم الحاسوب بسهولة وتتراوح سياسيّاً بين اليساريين والليبراليين والإسلاميين والمحايدين) يفضّلون إمّا أيمن نور أو المقاطعة.
وموضوع الاستطلاع بالتليفون شبه مستحيل في مصر، وسيفضِّل مبارك بشكل كبير، لأنّ الشعب لا يثق في الحيطان ذات الآذان!
أخيراً، أضيف نقطتين:
١) في الولايات المتّحدة يحدُث تلاعب طفيف في الإحصائيّات، ويمكن ملاحظة ذلك في اختلاف نتائج الصحف الموالية للمحافظين عن تلك الموالية للّيبراليّين، ومهندسو الحملات الانتخابيّة المحنكون يستغلون كلّ هذا. هذه المرّة بالذات لم تكُن المفاجأة في فوز بوش بسبب الاستطلاعات فحسب، بل بسبب استبيان الخارجين:
Exit polls
والتي تسأل فيها الصحف (المراهِقة المتعجّلة) الناخبين عمّن انتخبوا بالفعل.
٢) أضيف إلى مراجعك موقعاً متميّزاً للانتخابات الأمريكيّة وضعت رابطه عندي هنا
ملاحظة اضافية اعتقد انها خاصة بنا في مصر وخصوصا عند التعامل من خلال الانترنت
فانا مصري امتلك بطاقة انتخابية ولكنني غير مقيم بمصر وبالتالي فانني لا يجب ان ادرج من عينة البحث والا فان ذلك سيؤثر سلبا على نتيجة الاستطلاع
هذا اذا كنت قد فهمت جيدا موضوع المدونة 🙂
أنا سعيد جداً بالتعليقات الجادة
ميلاد: أنا بقى عندي أكثر من ثلاثين، وعايز أتعلم منك… مش أنا لي حق برضه
ما تقوله عن طريقة عرض النتائج تحتاج مدونة خاصة، وحالياً أجهز تدريب للناس في الشغل حول هذا الموضوع. أعتقد إننا نحتاج إلى خمس سنوات مثلاً حتى نبني ثقة في جهة ما من جهات الاستطلاعات ونثق في حيادها ونتائجها
رامي: أوافق على التحليل حول أيمن نور، وإن كان هناك احتمال آخر بالطبع، وهو الغش، وهذا اقترحه أحد المعلقين على التدوينة السابقة
درش: طبعاً أنت صح، وعلشان كده الاستطلاع اللي على الجنب فيه اختيار
لن أذهب للانتخاب
أما الموضوع الأخير على مدونتك، فأنا أحتاج حقاً مساعدة من شخص يفهم في موضوع جمع التوقيعات على البيانات
موضوع استطلاعات الراي بالنسبه لي كان موضوع شائك
وبصراحه وجدت كل ماأريده عندك
شكرا علي مجهودك وموضوعك الاكثر من رائع
واكثر ما أعجبني هو النقطه التي تتحدث فيها عن تأثير الاستطلاع علي الانتخابات
بس كان نفسي تربط الموضوع ده باالانتخابات المصريه
وهل نتائج الاستطلاع ستلعب لمبارك ام لأيمن نور