قليلون هم الأشخاص الذين تقابلهم مصادفة، في لقاء لا يفترض أن يدوم لأكثر من عشرين دقيقة، فيدوم لأكثر من إثني عشر عاماً، ويغير لقاءهم من حياتك وحياة كل من حولك طوال هذه السنوات وبعدها كثير…
قليلة هي اللحظات التي يذكرها الشخص بمنتهى الاعتزاز والفخر، ولا يكون هو فيها صاحب دور البطولة، بل مجرد مُشاهد، منحته الظروف فرصة أن يكون موجوداً، في عصر يعيش فيه رجل عظيم…
مازلت أذكر لقائي الأول بالأب/كريستيان فان نسبن توت سيفينار Christian Van Nispen tot Sevenaer، وكنت وقتها في أولى سنوات الجامعة، وكنت أبحث عن نموذج لإنسان يعيش حياته بصدق، لأقوم بعمل حوار معه لصالح مجلة أحد الأنشطة. واقترح عليَّ أحدهم أن يكون الحديث مع الأب/ كريستيان، مُعلقاً: “هذا الرجل علامة رجاء“. وقد كان أن طلبت الحديث، واتفقنا أن نلتقي في مدرسة الجزويت برمسيس.
كنت في الانتظار، حينما ظهر الرجل، هو في حوالي الستين من عمره، رمادي الشعر، ضحوك، ويركب “البسكلتة”!!! نعم، أتى الرجل من حيث يقيم في شبرا إلى رمسيس راكباً دراجة. وعلمت فيما بعد أنه – من حيث كونه هولندي الأصل – يستخدم الدراجة للذهاب إلى أي مكان في القاهرة، وهو يعلق على ذلك ضاحكاً: “العجلة من الشيطان، علشان كده بنركبها وندوس عليها“.
الأب/ كريستيان هو راهب يسوعي هولندي، أتى إلى مصر سنة 1960 تقريباً، وعاش فيها أكثر من نصف عمره. عندما تقدم للرهبنة، اختار آية صغيرة غير ملحوظة من الإنجيل لتكون هي شعار رسالته في الحياة: “أعطانا خدمة المصالحة“… وعلى ذلك، فقد جعل حياته خبرة مُعاشة للمصالحة، ما بين الناس، والطوائف، والأديان. حصل على الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية، وصار مع السنين أحد الوجوه المسيحية النادرة المقبولة من جميع الأطراف في مجال الحوار بين الأديان، كما لعب نفس الدور تقريباً في الحوار بين الطوائف المسيحية. أسس مع أصدقاؤه من المسلمين – وكان منهم وزير الأوقاف وشيخ الأزهر الأسبقين – جماعة الإخاء الديني، ثم جمعية عدالة وسلام، وذلك في محاولة لخلق مساحة من المحبة والمشاركة بين الباحثين عن الله المحبة – كلٌ في دينه وعلى طريقته – .
عندما يتحدث الأب/كريستيان إلى تلاميذه – وهو قد درَّس الفلسفة (مادة البحث عن الله) والإسلاميات على مدى عشرات السنين، وفي العديد من المؤسسات – يقول لهم: “ينبغي أن يكون لنا لغة واحدة نتحدث بها، فأنا أحاول قدر الإمكان أن يكون حديثي عن المسيحية والإسلام واحد سواء كنت أتحدث إلى مسيحيين أو مسلمين، وهذه المحاولة تجعلني أفهم الآخر بأسلوب أفضل“.
نشر الأب/ كريستيان بعض الكتب، والعديد من المقالات، وحاضر عشرات وربما مئات المرات في موضوع قبول الآخر. وآخر كتبه سماه “مسيحيون ومسلمون… معاً أمام الله“، ويطرح فيه فكرة الصلاة باعتبارها مساحة للمشاركة والتقارب بين أبناء الدينَين. وهو يعلم جيداً أن هناك الآلاف من الذين يفضلون البحث عن مساحات الاختلاف، ويتمسك في وسط كل ذلك بمعنى “الرجاء“. وقد قال لي في أحد المرات: “عندما أموت، أتمنى أن تكون الكلمة الوداعية في ذلك اليوم عن الرجاء.
كل ما سبق هو بعض الحديث الرسمي عن هذا الأب الحبيب، أما على المستوى الشخصي، فلا أظن أن ما أشعر به تجاهه يمكن التعبير عنه. فمنذ ذلك اليوم الذي التقيته فيه، وكنت وقتها أمشي على الأرض بخيلاء من لا ند له، وأعيش وهم العمق والتفلسف، وكنت وصحبي نطلق على جماعتنا وصف “الفريق الأعظم”، ونرى في أنفسنا مثالاً للأرستقراطية الفكرية… ثم قابلته، وأدركت كم نحن صغار. وطلبت منه أن يعطينا بعضاً من وقته واهتمامه، فأعطانا حباً مازال يجمعنا على ابتسامة، وسلاماً مازال يظللنا، وما لا يُحصى من اللحظات العميقة الجميلة، التي ملأها بما له من عمق، وبالرجاء المُعدي، وزينها بخفة ظل قَل أن تتأتى لرجل كرس حياته لمعركة تظنها الأغلبية خاسرة لا محالة.
لا يمكنني أن أدَّعي أنني اقتربت حتى من وصف الفخر الذي أشعر به، عندما أقول أن كريستيان فان نسبن هو أبي الروحي. لكنني لم أستطع إلا أن أهدي إليه هذه الكلمات المتواضعة، وقد احتفل منذ أيام بخمسين عاماً على دخوله الرهبنة، وكان احتفالنا به تجمعاً من الصغار والكبار، الراهبات والمحجبات، الفقراء والمفكرين، خليطاً من المُختلفين الذين لا يجمعهم سوى يومٌ مثل هذا، ورجلٌ مثل هذا.
كل عام وأنت على طريق الرجاء يا أبي الروحي.
طبعاً لن أكرر نفسي وأقول انتظر التدوينة القادمة لترى الكلام نفسه!! بس المرة دي ريّحتني، علشان أكتب بس الحاجات اللي إنت ما تعرفهاش عنه
😛 😛
حتى الصورة يا أخي هي هي، ونفس الزاوية 🙂
ـ
بالمناسبة، لماذا لا تنشط
work verification for comments
علشان ترحمنا وترحم نفسك من المسخمين؟
وآدي الدليل
عزيزي غاندي
اعترف اني كنت مخطاء في حكمي علي مدونتك
الان فقط اعلم كم نحن صغار
اعجبني التعبير بشدة
كنت قد شاهدت شي من ذلك القبيل علي احد القنوات الاخبارية تتحدث عن ذلك الراهب
وكل ذكري وانت فاكر
انا فخور ايضا بأنى اعرف هذا الرجل الذى كان له اكبر الاثر فى حياتنا الروحية و الاجتماعية معا و مجرد رؤيته و التحدث معه تجد الراحة والسكينة التى تظل تبحث عنها .ببساطته المعروفة و براءة القلب الكبير الذى يتمتع به تجد أن الحياة اسهل و أبسط مما تتصور .
أتمنى له بكل الحب الذى زرعه فى قلوبنا معا أن يواصل مسيرته الروحية المباركة بكل نجاح و أن يوفقه الرب فى خدمته
S.Georges
افتكرت كلمة الفريق الأعظم وأنا على الفطار .. وماعرفتش أقول ايه لماما لما قالت لى ضحكينا معاكي
أتشرف بأني كنت احدي تلاميذ ذلك الرجل يوماً ما في دراسة مادة الإسلاميات